دور صندوق الاستثمارات العامة في إيجاد حلول جديدة للزراعة المستدامة
مع ترقّب ارتفاع عدد سكان العالم إلى نحو 10 مليارات نسمة بحلول عام 2050، من المتوقع أن يرتفع كذلك الطلب العالمي على الغذاء بأكثر من 50%. وتواجه المناطق ذات المناخ الجاف، مثل الشرق الأوسط، تحديات خاصة في سعيها لتأمين إمداداتها الغذائية بطرق مستدامة وقابلة للتكيف. وتتضح في دول مثل المملكة العربية السعودية تعقيدات هذا المسعى، حيث الأراضي الصالحة للزراعة شحيحة والموارد المائية محدودة، فالأمن الغذائي لم يصبح هدفاً اقتصادياً فحسب، بل أصبح جزءاً أساسياً من ضمان المرونة الوطنية في مواجهة التحديات- ما يُعتبر حجر الزاوية في رؤية 2030.
وقد كان لدول أخرى في السابق أدوار رائدة في إيجاد حلول للزراعة في البيئات الصعبة. وقد أدى استصلاح هولندا المستمر للأراضي إلى جعلها الآن في المرتبة الثانية عالمياً بعد الولايات المتحدة من حيث تصدير السلع الزراعية. ويجري الآن رسم مسار جديد في المملكة العربية السعودية، حيث يقوم صندوق الاستثمارات العامة، وهو أحد صناديق الثروة السيادية الرائدة في العالم، بتسخير التقنية الزراعية لخلق مشهد إنتاج غذائي مستقبلي مقاوم للمخاطر، وتقديم نموذج يمكن أن تتعلم منه المناطق الأخرى التي تعاني من ندرة المياه.
ويشرح أ. ماجد العساف، رئيس قطاع المنتجات الاستهلاكية والتجزئة في الإدارة العامة للاستثمارات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في صندوق الاستثمارات العامة، هذه التوجهات قائلاً: "نحن ننظر إلى الأمن الغذائي من منظورين: تأمين السلع الغذائية الاستراتيجية من مصادر خارجية وتحقيق الاستدامة والاكتفاء الذاتي محلياً".
الدور الاستراتيجي في الابتكار الزراعي
لقد تم تسريع التحول الزراعي في المملكة العربية السعودية من خلال مبادرات صندوق الاستثمارات العامة التي تزيد من الاكتفاء الذاتي والمرونة. ومن خلال استثمارات الصندوق في أسواق السلع الأساسية الرئيسية مثل البرازيل والهند، يتم التركيز على الأصول الاستراتيجية التي تمنح الصندوق قدرة ضمان الوصول للموارد الحيوية. وقد تم تطوير هذا النهج بشكل ملحوظ في أعقاب اضطرابات سلاسل الامداد بسبب جائحة كوفيد-19، مما أدى إلى إعادة تقويم أهداف الأمن الغذائي للمملكة العربية السعودية. يقول العساف: "ما أظهرته لنا جائحة كوفيد-19 هو أننا بحاجة إلى تأمين مواردنا لضمان حصول المستهلك في المملكة العربية السعودية على المواد الأساسية دائماً دون انقطاع". ويجمع هذا النهج الآن بين الشراكات الدولية الاستباقية وعمليات نشر التقنية الزراعية المتقدمة محلياً.
تجسد الشركة السعودية للاستثمار الزراعي والإنتاج الحيواني (سالك)، وهي شركة تابعة لصندوق الاستثمارات العامة، هذا النهج، حيث تستثمر في شركات الأعمال الزراعية العالمية ذات المزايا النسبية التقنية والجغرافية والبيئية، بالإضافة إلى الاستثمار في الشركات المحلية وتمكينها من دعم نظام مستدام للإمدادات الغذائية وصنع مكانة لسالك كرائد عالمي في مجال الأغذية الزراعية والأمن الغذائي. تضمن سالك، من خلال الاستحواذ على أصول كبيرة في مناطق غنية بالسلع الأساسية مثل أمريكا الجنوبية وأستراليا، حصول المملكة العربية السعودية على الواردات الأساسية مثل الماشية. ولا تهدف عمليات الاستحواذ هذه إلى تلبية الاحتياجات الحالية فحسب، بل تهدف أيضًا إلى توفير شبكة أمان لأوقات الأزمات. يقول العساف: "تتمثل استراتيجيتنا في دعم تأمين سلسلة القيمة بأكملها، مما يسمح لنا بالاستجابة السريعة وإعطاء الأولوية للاحتياجات السعودية عند حدوث اضطرابات".
وبالإضافة إلى استثماراته الدولية، يعمل صندوق الاستثمارات العامة على تطوير الابتكار الزراعي المحلي لتعزيز الأمن الغذائي والتنوع الاقتصادي في المملكة العربية السعودية. ومن الأمثلة على ذلك شركة "توبيان" للأغذية التابعة لنيوم، وهي شركة رائدة في مجال إنتاج الغذاء المستدام، بما في ذلك الزراعة المقاومة للمناخ وتربية الأحياء المائية المتجددة، وذلك بهدف حماية النظم الغذائية في المملكة العربية السعودية في المستقبل.

وبالمثل، تعمل الشركة السعودية للقهوة على إنعاش صناعة القهوة المحلية من خلال السعي إلى زيادة الإنتاج ووضع المملكة العربية السعودية كرائد عالمي في هذا القطاع.
وفي الوقت نفسه، تكرس شركة تراث المدينة جهودها للارتقاء بإنتاج ومعالجة وتقدير الأصناف المتنوعة من التمور السعودية على مستوى العالم. وتعمل الشركة، من خلال التركيز على الابتكار والاستدامة، على تحويل التمور إلى منتجات عالية القيمة، تحافظ على التراث الغذائي الغني للمملكة العربية السعودية، وتضع المملكة في مكانة رائدة في صناعة التمور العالمية. وقد أحدث إطلاق "ميلاف كولا"، في نوفمبر 2024، ضجة كبيرة على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث جذب انتباه الجمهور وأظهر الإمكانات المبتكرة للتمور. يقول بندر القحطاني، الرئيس التنفيذي لشركة المدينة المنورة للتراث:“ مشروب ’ميلاف كولا‘ هو مجرد مثال واحد على كيفية سعينا لإطلاق إمكانات جديدة في المنتجات القائمة على التمور“، مما يسلط الضوء على التزام الشركة بتعزيز القيمة الاقتصادية والثقافية للتمور من خلال الابتكار الاستراتيجي.
وتشهد الشركة بالفعل وصول علاماتها التجارية إلى أسواق جديدة، مع الإعلان مؤخراً عن اتفاقية توزيع استراتيجية مع مجموعة لولو العالمية التي ستشهد توسعاً في الخليج وشرق آسيا. كما تطلق شركة "ميلاف" منتجاتها في المملكة الأردنية الهاشمية بالتعاون مع شركة قطوف دانية، كما تم افتتاح كشك "نوا" للتمور الفاخرة في مطار شانغي بسنغافورة.
كما يتزايد كذلك إنتاج حليب الإبل الذي تنتجه شركة سواني، وذلك بما يسهم في استدامة الألبان. وتعمل الشركة على تجديد صناعة وتراث إقليمي بطريقة مبتكرة للمستهلكين المعاصرين. ومن المتوقع أن تصل قيمة هذه السوق المتنامية إلى أكثر من 13 مليار دولار بحلول نهاية العقد الحالي.
وفي الوقت نفسه، تركز شركة تطوير المنتجات الحلال (HPDC) المملوكة لصندوق الاستثمارات العامة على توطين صناعة الحلال وتطوير منظومة الحلال على مستوى العالم.
وتعكس هذه المبادرات مجتمعةً استراتيجية صندوق الاستثمارات العامة الشاملة لتعزيز الأمن الغذائي من خلال الشراكات العالمية والتقدم المحلي، بما يضمن توفير إمدادات غذائية مرنة ومتنوعة للمملكة العربية السعودية.
الحلول التقنية التي تقود الزراعة المستدامة
لزيادة الموارد المحدودة إلى أقصى حد، يتم اعتماد حلول التكنولوجيا الزراعية للحد من استهلاك الموارد بشكل كبير. ويستخدم مشروع "غرين ديونز"، وهو مشروع زراعي عمودي تدعمه شركة أسواق التميمي لتجارة المواد الغذائية بالتجزئة، والتي يمتلك صندوق الاستثمارات العامة حصة فيها، كمية مياه أقل بنسبة 95% من الزراعة التقليدية، مما يتيح زراعة المحاصيل في ظروف كانت ستكون باهظة. وتتجلى هذه التطورات أيضاً في مشروع بيور هارفست، المدعوم من الشركة الوطنية للتنمية الزراعية (نادك) في المملكة العربية السعودية، والتي تمتلك (سالك) حصة فيها، والذي يستخدم أنظمة الزراعة المائية عالية التقنية التي لا تتطلب سوى جزء بسيط من المياه المستخدمة في الزراعة التقليدية.
وكما يوضح راندي جاغت، رئيس قسم مستقبل الغذاء في ديلويت: "لم يعد بإمكان النظام الغذائي أن يتوسع بشكل تقليدي؛ فنحن بحاجة إلى تحول مدفوع بالابتكار". ويشير جاغت إلى دور الذكاء الاصطناعي والبيانات في الزراعة الدقيقة باعتبارها حاسمة للتغلب على القيود الطبيعية، مضيفًا أن التحول الرقمي في الزراعة قد نجح أخيراً في الاستجابة لاحتياجات سكان العالم الذين يتزايد عددهم بسرعة. كما تساعد التقنيات مثل تقنية سلسلة الكتل المملكة العربية السعودية على تتبع الإمدادات الغذائية وتأمينها بشفافية غير مسبوقة، مما يضمن كفاءة وموثوقية إنتاج الأغذية عبر سلسلة القيمة وزيادة ثقة المستهلك.
ويعكس اعتماد نظم البيئة المغلقة والنظم الموفرة للمياه تحولاً نحو الزراعة المتجددة، وهو اتجاه بالغ الأهمية للمناطق التي تواجه قيوداً مناخية. يقول العساف: "نحن نعمل على تفعيل حلول متوافقة مع مختلف أنظمة التشغيل، ومن خلال التركيز على النتائج، نستفيد من المزايا الطبيعية حيثما استطعنا"، ويشمل ذلك بالتأكيد اختيار الشركاء الدوليين القادرين على جلب تقنيات متقدمة ومزايا مناخية محددة.
تأثير عالمي ودروس للمستقبل
ينصب التركيز على الابتكارات الزراعية التي توفر أطراً جديدة للمناطق الأخرى التي تواجه قيوداً بيئية مماثلة. تُظهر الاستثمارات مثل شراكات سالك في البرازيل كيف يمكن للتحالفات العالمية الاستراتيجية أن تعزز المرونة والاستقرار المحليين. كما أن هذه الشراكات تخلق آثاراً إيجابية مضاعفة، مما يساهم في خلق فرص العمل والبنية التحتية في المناطق المعنية. ويشدد العساف على أن تكامل الأصول العالمية يهدف إلى بناء نظام أمن غذائي مترابط: "من خلال ربط الشركات العالمية في سلسلة قيمة واحدة، فإننا نخلق تأثيراً مضاعفاً يعود بالنفع على المملكة العربية السعودية وشركائنا".
ويشدد راندي جاغت أيضًا على الحاجة إلى التعاون في سلسلة القيمة لتحقيق حلول زراعية مستدامة وقابلة للتطوير. ويقول: "البيانات والشفافية ضروريان لتحسين الإنتاج وضمان التأثير"، مضيفًا أن الشراكات عبر القطاعات تمكّن من دمج التقنيات الجديدة بنجاح في الأسواق الأوسع نطاقاً.
رؤية 2030 وما بعدها
بالنظر للمستقبل، فإن التحول الزراعي في المملكة العربية السعودية في وضع يتماشى مع أهداف الاستدامة العالمية، في حين أن التزام صندوق الاستثمارات العامة بالتقدم التقني وشراكات النظام البيئي هو بمثابة مخطط لنظم غذائية مرنة في المناطق القاحلة. ومع تزايد الطلب على الغذاء في العالم في ظل الضغوط البيئية، تُظهر هذه التطورات في الزراعة الموفرة للمياه والشراكات المتكيفة مع المناخ ما يمكن تحقيقه عندما تلتقي المرونة الاقتصادية مع الإشراف البيئي.
يقول العساف: "لا يقتصر عمل صندوق الاستثمارات العامة على تأمين الغذاء لليوم فحسب، نحن نبني أيضاً منظومة للأجيال القادمة". يعكس هذا التوافق مع رؤية 2030 الأهداف الأوسع نطاقاً المرتبطة بالتحول إلى اقتصاد متنوع ومستدام. ونظراً لأن المناطق الأخرى تواجه ضغوطاً مماثلة، فإن هذا النموذج - بمزيج من الابتكار وكفاءة الموارد والشراكات الاستراتيجية - يقدم دروساً قيمة لمستقبل تكون فيه الزراعة آمنة ومستدامة في آن.
من إنتاج فاينانشيال تايمز
-
شبكة أخبار الصندوق
06 أكتوبر 2025 تأثير الصندوق: رسم خريطة النمو في المملكة العربية السعودية والعالم
-
شبكة أخبار الصندوق
25 يونيو 2025 المدن المبتكرة تقدّم مفهوماً جديداً لتعزيز تجربة التنقل في المملكة العربية السعودية -
شبكة أخبار الصندوق
12 مايو 2025 الفخامة والاستدامة تجتمعان في أبرز وجهات الرفاهية في المملكة العربية السعودية -
شبكة أخبار الصندوق
29 أبريل 2025 كيف يساهم صندوق الاستثمارات العامة في تشكيل مستقبل قطاع التعدين في المملكة العربية السعودية -
شبكة أخبار الصندوق
29 أبريل 2025 دور قطاع الطيران والخدمات اللوجستية في تسريع جهود التنويع الاقتصادي في المملكة العربية السعودية